والحج فوق ذلك كله يعلم المؤمنين صفاء العقيدة وسلامتها وخلوصها من الشرك:
(1) فإبراهيم- عليه الصلاة والسلام- الذي بنى البيت دعا إلى الملة الحنيفية القائمة على إخلاص التوحيد لله، والبراءة من الشرك وأهله.((وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) فالحج مدرسة ترجع كل مسلم إلى الأصل العقدي الواجب الذي لا يجوز أن يفرط فيه، وهو التوحيد والبراءة من الشرك.
(2) وينبثق من هذا التوحيد، الطاعة لله تعالى فيما أحب الإنسان أو كره،
وسواء رضي عنه الآخرون أو لم يرضوا:
أ- هذا إبراهيم يترك ولده الرضيع إسماعيل وأمه هاجر، وقد أنزلهم في مكة قبل عمارتها وقبل بناء البيت، يتركهم بلا ماء، ولا زاد، ويذهب لأمر الله تعالى. وتلحق به هاجر وتقول له: كيف تتركنا ها هنا؟ وهو لا يلتفت إليها. ولكنها المرأة المؤمنة عرفت السر. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فأشار إليها أن نعم. قالت: إذن لا يضيعنا الله.ولم يضيعهم الله، بل تفجرت مياه زمزم تحت أقدام الرضيع[7]، بعد سعيها بين جبلي الصفا والمروة لتكون سنة وشريعة.
ب- ولما بلغ إسماعيل السعي مع أبيه وصار بحيث تتعلق نفس الوالد به أشد التعلق، أمره الله بأمر عظيم: أن يذبح ولده، فاستجاب الوالد دون تردد، واستجاب الولد وقال: (...يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) (الصافات: من الآية102) وأسلما لربهما وتله للجبين، ووقع الامتثال الكامل، ولكن رحمة الله كانت واسعة، حيث فداه الله بذبح عظيم، فصارت الأضحية سنة.
ج- والحج انسلاخ من عادات الجاهلية، وما أحدثوه في الحج خاصة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة المشركين، مع أنهم أهله وقومه وعشيرته، ولكنه لم يكن متلوثأ بما تلوث به بعضنا في هذه الأيام من قوميات جاهلية:
ا- فأحرم صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج، مخالفة للمشركين.
2- ووقف مع الناس في عرفات، مخالفة لقريش الذين كانوا يقفون بالمزدلفة يزعمون أنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه إلى الحل في عرفات.
3- وأفاض من عرفات بعد الغروب، خلافأ للمشركين.
(3) الأصل في هذا الدين، التوحيد والبعد عن الشرك، ثم يأتي بعد ذلك ما هو من أعمال الخير؟ كعمارة المسجد الحرام، ولقد عكس المشركون الأمر: فاهتموا بعمارة المسجد الحرام والسقاية، مع الشرك بالله تعالى.
قال تعالى: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))