البغضاء سبب الفرقة
وهي: الحالقة, لا تحلق الشعر ولكن تحلق الدين.
البغضاء التي تفسد ذات البين, البغضاء التي تشتعل في القلوب وتقطع بين الأرحام, قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22-23] .
وبعض الجهلة يغذي هذه البغضاء في قلوب أبنائه, يعلمهم بعداء القبائل, ويذكر لهم تاريخ الجاهلية, وكيف تذابحت القبائل فيما بينها, وماذا فعل بنو فلان ببني فلان وما هو موقف تلك القبيلة منا! ومن أحلافنا! ومن أصدقاؤنا! ومن أعداؤنا! وهذا كله عداء جاهلي وثني فرعوني ليس في الكتاب ولا في السنة, بل حرب للإسلام.
وبعض الجهلة يركب في أذهان أبنائه عداء الأسر والأقارب, يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لا تحدثوني عن أصحابي - أي: بما قالوه فيّ- دعوني أخرج وأنا سليم الصدر للناس} هذه هي البغضاء يا عباد الله, وهي التي تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
الحسد سبب الفرقة
ومن أسباب التفرقة أيضاً: الحسد وسبب تقاتل ابني آدم إنما هو الحسد, قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ويقول الشاعر:
ألا قل لمن بات لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله سبحانه لأنك لم ترض لي ما وهب
فمن حسد مسلماً فقد أساء الأدب مع الله, والحسد في القلب نعرة من نار يأكل الحسنات, ويدمر الصالحات, ويفني القبائل والأسر, ويعدم الإخاء بين الناس, هذا هو الحسد, وهو كثير في الناس يوم يحبون الدنيا.
حب الدنيا سبب الفرقة
وأما السبب الثالث: فهو السبب العظيم, وهو الذي وقعنا فيه جميعاً -إلا من رحم- ربك وهو حب الدنيا.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة, يقول سبحانه عن حب الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] .
الحياة وصفها بعض الصالحين قال: "حلم مثل النوم", قالوا لنوح عليه السلام وقد عاش ما يقارب الألف سنة: كيف الحياة؟ قال: "رأيتها كبيت له بابان دخلت من هذا وخرجت من ذاك".
الدنيا يصفر مخضرها, وتضمحل زهرتها, ويذوب شبابها, وتبلى ثيابها, الدنيا ما أضحكت إلا أبكت, وما علت إلا أوعلت, وما غلت إلا أوغلت, وما رفعت من رجل له علامات إلا وكلما علامات.
قيل لأحد الصالحين: صف لنا الدنيا؟ قال: "عجوز شمطاء قبيحة التقبيل والشم" وقال آخر: "الدنيا سارقة مارقة حية رقطاء" وقال الإمام أحمد: "عجباً للدنيا بينما نحن مع أبنائنا إذ تفرقنا".
ولذلك يقول المتنبي:
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى زوى فحواه لحد ضيقُ
يقولون: إن هارون الرشيد الذي ملك الدنيا, حتى كان يتحدى الغمام في السماء ويقول: "أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني بإذن الله" لما حضرته الوفاة, قال: "اجمعوا لي الجيش, فجمعوا الجيش والقادة, فخرج على الجيش وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه, ثم قال: اللهم إني لست مصلحاً فأعتذر, ولست قوياً فأنتصر, اللهم اقبلني فيمن قبلت".
وكان الوليد بن عبد الملك أحد الخلفاء, يتقلب ظهراً لبطن على التراب وهو يبكي في سكرات الموت ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] .
حب الدنيا هو الذي قطع بين الأرحام والأحباب والأقارب, حب الدنيا هو الذي جعل الناس يتخلفون عن صلاة الجماعات والندوات, وعن ذكر رب الأرض والسموات, حب الدنيا هو الذي جعل القلوب قاسية, وضيع الوقت في غير طاعة الله عز وجل, وإلا فليس لك من دنياك إلا ما أكلت فأبليت, أو تصدقت فأعطيت, أو لبست فأفنيت.
لباس أو قطعة ثوب ولقمة وشربة وحسنة تفعلها وصدقة تقدمها, هذه هي الدنيا, واعلم علم اليقين أن من أحسن ما تقدمه هو العمل الصالح, وأن كل شيء سوف يزول, إلا ما أبقاه العبد لآخرته.
صلِّ ركعتين في ظلام الليل لظلام القبور, وتصدق بصدقة في شدة جوع لحرارة يوم النشور, وأقم صلبك في جنح الليل ليوم يقوم الناس من القبور.
الافتخار بين الناس
ومن أسباب الفرقة العصبية الجاهلية القبلية, وقد أشرت إليها, وهي التحزبات والتفرقات, وجعل بعض القبائل على بعضٍ لها منزلة أو درجة, وهذه من الشيطان, وهي حرب للإسلام, وللرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن افتخر بآبائه فهو أولهم في النار, من افتخر بهم وبجهلهم وبما فعلوا فهو أولهم في النار, يقول عليه الصلاة والسلام كما في الأدب المفرد للإمام البخاري: {حتى يكونوا أذل من الجعلان الذي يقلب العذرة بأنفه} الجعلان هذا دويبة يسميها الناس: أبو جعران.
وقد صح عنه أنه قال: {يحشر المتكبرون في صورة الذر يوم القيامة